
رحل الجسد وبقي الأثر… كان الفقد هذه المرة أعمق من أن يُحكى، وأشدّ من أن يُحتمل، وكأنّ الموت نفسه جاء هذه المرّة بهيئة زائر يعرفنا جيداً.
قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، وقال جلّ شأنه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). آيات تتردّد على الألسن منذ خُلق الإنسان، لكننا اليوم نسمعها بقلوبٍ مثقوبة، نراها تمشي على الأرض، ونذوق معناها ونحن أحياء.*
القرآن يحدّثنا عن الهيبة التي لا تُقاوم، عن النهاية التي تخشع لها الأرواح مهما تجبّرت الأجساد. لكننا اليوم تذوقنا طعمها مُراً ونحن أحياء، رأيناها تخطف النور من بين أيدينا، وتُسكن القلب وحشةً لا تُشبه شيئاً.*
في ظهيرة الجمعة السابع عشر من شهر اكتوبر من سنة 2025 وبعد الصلاة، وبين أهله وأحبابه، باغتته مسيرة غادرة أطلقها الجيش، كما أكّد ذلك الرائد بالجيش السوداني وإبن قبيلة المجانين فيصل زانوق من الدفعة 53 في سلاح المدفعية، وفي تسجيله الذي انتشر بعد الحادثة مباشرة.
الناظر ابو جابر لم يكن في ساحة قتال، بل كان بين أهله يجتمعون ويتشاورون في شؤونهم وإدارة التفلتات التي حدثت قبل يوم.
نعم، كان في أرضه، في حضن ترابه الذي أحبهّ ولم يبارحه منذ بدأت الحرب، وآثر أن يبقى مع قبيلته مسالماً لا يحمل سلاحاً.
هناك ارتقى الناظر سليمان جابر جمعة سهل، ومعه عشرون من خيرة رجال القبيلة، عمداً ووجهاءً وسدنة للحكمة والصلح.
فُجعنا يا أهلنا في فقدٍ جلل، ومصابٍ أليمٍ تجاوز حدود الصبر. رأينا رجالنا، أعمدة القبيلة وسدنتها، يرحلون دفعة واحدة… كأن السماء انطفأت فجأة، وكأن الريح توقفت عن التنفس.*
رحل الناظر… الرجل الذي كان يمشي على الأرض بثقل التاريخ وبصيرة الحكماء. صوته إذا ارتفع سكتت الفتنة، وإذا أشار بيده انفرجت الأزمات. لم يكن زعيماً فقط، بل كان ضميراً حياً، يزن الأمور بميزان العدل، ويقدّم مصلحة القبيلة على كل اعتبار.*
أبو جابر… لم يكن يملك سلاحاً، بل كان سلاحه الكلمة، ودرعه الحكمة، ودربه درب الصلح والكرامة. ثلاث سنوات وهو يذود عن القبيلة بالحكمة، يطفئ نيران الحرب، ويمنع أبناءه من الانزلاق في أتون الفتنة. فهل جزاء الإحسان إلا الغدر؟ وهل يُكافأ السلام بالصواريخ؟
رحل الناظر ( زعيم قبيلة) سليمان جابر جمعة سهل، الرجل الذي كان صخرة في وجه العواصف، حكمة تمشي على قدمين، صوت عقل حين يشتد الجنون، ووجه مضيء حين يعمّ الظلام. كان كبيرنا وهادينا، يضع الكلمة في مكانها، ويصنع القرار بهدوء لا يعرفه إلا الكبار*.
أبو جابر… الناظر… الرمز… لم يكن يقرأ السياسة في الكتب، بل يكتبها في الميدان. يفاوض بثبات، ويُهادن بعقل، ويقاتل بشرف.
كان يرى أبعد من اللحظة، ويمسك بخيوطها دون أن تنقطع، يقود بعين على الغد وقلب على الناس، وذاكرة لا تنسى تاريخ القبيلة ولا إرث الجدود. لم يكن رجلاً فقط، بل كان معنى؛ معنى القيادة حين تُختبر في الفتنة، ومعنى الإنسانية حين تضيق الحياة. كان مجلسه مأوى الخائفين، وملاذ الحائرين، وصوته هادئاً كأن وراءه بحراً من الاتزان.*
العمد ورموز القبيلة كانوا مع الناظر، رحل رجال من معدن لا يتكرّر، منهم العمدة عبد الحفيظ حسن محمد ناصر أبو ركوك، الذي كان حصناً للحق، ويدافع عن القبيلة بذكاء وحنكة، والعمدة محمد الأمين محمد أحمد عجبنا (عبود)، صمام أمان للمجتمع وحامياً للوحدة، والحاج آدم أبو جميراية، الصبور في البلاء والكريم في العطاء، والشيخ محمد العبيد محمد جمعة سهل، الناصح الذي يوزع العدل في المجالس كأنه يمشي على دروب السماء، والنذير ميدوب جمعة سهل، رجل المبادئ الثابتة، الذي لم يساوم في موقف ولا كلمة، وجمعة مردس مادبو، أمل الشباب حين يئسوا، ومحمد إبراهيم جابر جمعة سهل، الذي جمع بين القوة والهدوء، وحاج عبيد حامد محمد محمود، الذي يزرع الطمأنينة في القلوب، وجمعة تريكاوي، رمز الوفاء والمثابرة، والبخاري مشاور جابر جمعة سهل، الفارس الذي سمى والده علي اسم عمه الذي شارك في صناعة استقلال السودان داخل البرلمان، يرفع راية العدالة والحق، والسيد عطية حسب، الحصن المنيع في الأزمات، ومحمد السيد سليمان الزين، وجابر حمد عبد الله سليمان، ويونس محمد علي، وخليفة مفرج جابر، ومولانا يوسف حامد، ومحمد أبو جريد، وعبد الباقي محمد فرج، والنيل إبراهيم جابر جمعة سهل، ويوسف أحمد يوسف أبو أم حليب.*
هؤلاء الرجال لم يغيبوا في التراب، بل استقرّوا في ذاكرة الأرض. كانوا يُطفئون نار الفتن بقلوبهم، ويجمعون الكلمة كمن يجمع أبناءه في خيمة واحدة. لم يبدّلوا موقفاً، ولا خانوا العهد، ولا باعوا الأرض مهما اشتد الزمان. كانوا الفزعة حين تخذل الناس الفزعات، والكرم حين يجف العطاء.*
أبو جابر، أخي وصديقي وابن عمي… كان بيته مشرعاً للناس، ويده ممدودة، وصدره واسع للجميع. لم يعرف الضغينة، ولم يُؤثر نفسه بشيء. كان رجل المواقف الصعبة، إذا احتدم الخلاف لجأوا إليه، وإذا استبهم الطريق سار أمامهم. كان يقود بعقل منفتح وقلب صادق، فلا يفرّق بين الناس إلا بقدر الحق.*
كان آخر جيل من الرجال الذين إذا مشوا في الأرض، شعر الناس أن الأرض تبتسم. في ملامحه مزيج الصبر والعزيمة، وفي عينيه وهج يشبه وهج من مرّوا بكرري، ووقفوا في البرلمان مع الشيخ مشاور جمعة سهل يعلنون استقلال السودان.*
برحيلهم، فقدت القبيلة ظلّها وملاذها وصوتها. ولم نفقدهم وحدنا، بل فقدتهم المروءة نفسها، وفقدتهم المواقف الشريفة، وفقدهم السودان الذي عرف الرجال من خطواتهم الثقيلة في الأرض.*
الآن نحمل وجعاً لا يُقال، وبكاءً لا يُرى، لأن الحزن لم يعد دمعاً يسيل، بل صمتاً يُقيم في العظام. هؤلاء الرجال لم يغيبوا في التراب، بل استقرّوا في ذاكرة الأرض، يسقونها من مجدهم، ويورّثوننا واجب الوفاء.
إننا نعرف أنّ الحزن لا يُعيد الغائبين، لكننا نعلم أنّ الوفاء يُبقيهم خالدين فينا. سيظل اسم سليمان جابر سهل يُقال في المجالس، تُروى سيرته كما تُروى حكايات الأبطال، ويُذكر كل من سار في دربه في العدل والشجاعة والكرم.
الموت أخذ الأجساد، لكنه لم يأخذ التاريخ، ولم يمحُ الذاكرة، ولم يطفئ الشرف. ترك لنا رجالاً كباراً وسيرة أطول من أعمارنا. ومن بعدهم سنحمل المشعل كما أوصونا، نرث الكلمة والموقف والمبدأ، ونحيا كما عاشوا: أعزاء لا نُهان، أقوياء لا نُباع.
بموتهم انكسر المرق واتشتت الرصاص، وتناسل الحزن فينا حتى صار الليل أطول من صبرنا، والنهار أثقل من أحلامنا. صرنا نمشي والدمع في العيون لا يجف. كأن الأرض تحتضنهم وتبكي، كأنها حزنت لأجلنا قبل أن نحزن.*
هؤلاء الرجال تركوا لنا الرسالة والوصية والعهد. ونحن عازمون أن نحملها كما حملوها، وأن نصون إرثهم كما صانوه، وأن نعيد بناء الصفّ كما أراد ناظرنا ورفاقه، ونحمي الأرض والحقّ كما حمَوا.
هذا رثاء لا يُكتب بالحبر، بل يُكتب بالدمع، ويُقرأ بالقلب، ويُحفظ في الوجدان. رثاء رجال عاشوا ليعلّموا، وماتوا ليبقوا درساً خالداً في كتاب القبيلة. نقطّع بانه من الحزن يولد العزم، ومن الدم يولد عهد، إنه عهد استعادة الكرامة، وتحويل المصاب إلى عمل منظم يضمن ألا يكون الموت سمة لحوارنا، وأن تظلّ القبيلة شامخة، والوفاء حيّاً بيننا*.
تركوا لنا الوصية: لا نبيع الأرض، ولا ننسى الدم، ولا نُفرّط في الصف. ونحن على العهد باقون، نحمل الرسالة، نصون الذكرى، نبني كما أرادوا، ونحيا كما عاشوا: أعزاء لا نُذل، أوفياء لا نُشترى.*
اللهم اجعل قبورهم روضة من رياض الجنة، واملأ صدورنا صبراً كما ملأت الأرض من قبلهم مجداً. اللهم تقبّلهم شهداء في عليين، واربط على قلوبنا برباط الحكمة والثبات، وامنحنا القوة لنكمل ما بدأوه، ونصون ما تركوه، ونحفظ العهد الذي ارتقوا وهم عليه ثابتون.
اخوكم المكلوم: عادل ود سهل
(يشير موقع ” إطلالة” إلى أن عادل سهل أستاذ جامعي)