
محمد المكي أحمد:
أثارت ندوة المعرض الأول لـ “المؤلفين والمؤلفات ” السودانيين، المقيمين في المملكة المتحدة، نقاشاً حيوياً، عن عناوين عدة ، ووسط حضور حاشد، لرجال ونساء، و شباب، وأطفال ، في “أبرار هاوس” ، حيث انطلق الحدث السوداني ،الأول من نوعه.
أجمع مشاركون على أن مجموعة كبيرة من السودانيين سجلت حضورا في موقع الحدث.
الحضور الحاشد في 27 سبتمبر 2025 يعكس دلالات مهمة ، لأن الحرب الحالية في السودان، مزقت شمل السودانيين أكثر من أي وقت مضى ، وزرعت بينهم الأحقاد وسموم الكراهية وشتت شملهم ، وبات حضور المناسبات يخضع لتصنيفات بعضها قبلي وعنصري، وأيضا لمنطق” مع الحرب أو ضدها” .
السودانيون بطبعهم وتركيبتهم أصحاب رؤى متباينة ، وانتماءات متعددة، ومواقف مختلفة، وهذا في رأيي يضفى على المجتمعات السودانية بريقا وجاذبية وسمات تُميًز تركيبة مجتمعاتنا.
لكن هذا البريق لا تُطل ومضاته، أوتشرق إشراقاته إلا في مناخ الحرية والديمقراطية، وفي ظل دولة المؤسسات التي توفر العدالة، وتحمي الحقوق وتساوي بين الناس.
هذا يعني أن تلاقي السودانيين يضمحل في أجواء الحرب، والإنقلاب، لأنها تجلب مناخات سامة و صاخبة ، وضارة، تمزق الصفوف ، وتُحيل لوحة التعددية الجميلة إلى ساحات للمعارك، بالبنادق والسيوف والسكاكين التي تقطع الرؤوس، وبالكلام القبيح والكلمة الضارة، التي تنشر سموم الكراهية، والبغضاء، والعنصرية، التي تقمع ،بالقانون ،وعلى سبيل المثال، مَن يسمونهم أصحاب” الوجوه الغريبة” في بلدها!
في اجواء حرب السودان ، تحوًل ” أبرار هاوس” في لندن، من موقع كان يحتضن خلال سنوات مضت فعاليات سودانية، يحضرها بنات وأبناء السودان ،باختلاف رؤاهم وأعراقهم، إلى موقع يرتاده سودانيون في معظم الأوقات خلال هذه الفترة، لتلقي التعازي في راحلين ، في زمن ارتفعت فيه معدلات وفاة السودانيين، داخل السودان وخارجه، بسبب الحرب، وتداعياتها ،التي نشرت أمراضا فتاكة، وأصابت السودانيين بأوجاع وأحزان قاتلة.
المعرض الأول للمؤلفين والمؤلفات أتاح فرصة لكثيرين ليشهدوا فعالية، زرعت بذورا تجمع بين الناس ولا تُفرق، ووفرت ساحة للتعارف، ولقاء وجوه مبدعة، ، وأتاحت أيضا فرصة لإقتناء إصدارات متنوعة المضامين.
الأهم في هذا السياق أنه وفر منصة تفاعل بين المؤلفين وزوار المعرض، إذ أن التواصل والحوار المباشر يُشكًل عاملا مهما ، يبني جسورا لتبادل الرؤى، ويساهم في إزالة سوء الفهم، الناجم عن غياب أو هشاشة قنوات التواصل وضعفها.
غياب الحوار والتواصل يساهم في تعميق عدم الاحترام المتبادل، تحت مفعول حملات قبيحة، وسيئة، تُشيع الكراهية، في أزمنة القتل، والصراع المحموم.
في ” أبرار هاوس” التقت وجوه ،وعقول، وبعضها تعانق للمرة الأولى..
خلال ثلاث ساعات، شهد المعرض ندوة شارك فيها دكتور عبد السلام نور الدين، ودكتورة سعاد مصطفى، ودكتور صديق كبلو، ودكتور محمد الأنصاري، والمهندس، الزميل عماد البليك ( عملنا في صحيفة الشرق القطرية قبل سنوات عدة) ، وتولى الزميل نميري مجاور مهمة تقديم المشاركين في الندوة.
الأستاذ مصطفى عمر شركيان إفتتح الندوة ، مشيرا إلى أن معرض المؤلفين، الأول من نوعه، سيكون نواة لمعارض في مدن بريطانية، ثم أدار دكتور محمد الأنصاري ودكتور صديق كبلو الحوار مع دكتور عبد السلام نور الدين ودكتورة سعاد مصطفى والمهندس عماد البليك.
دعوة لمغادرة دور النشر التقليدية
ناقش المشاركون في الندوة قضية “المؤلف و تحديات النشر” ورأى البليك في بداية الندوة، أن هناك خمسة تحديات ، وهي صعوبة الوصول إلى دور النشر، ارتفاع تكاليف الطباعة ، ضعف التوزيع، القرصنة ، ضعف حقوق الملكية الفكرية، قلة القراء وضعف الإقبال على قراءة الكتب.
وقال إن، الفرصة المتاحة تكمن في مغادرة دور النشر التقليدي والإتجاه للنشر الإلكتروني.
ولفت إلى أن ” أمازون ” بدأت بالكتاب، ولديها الآن منصة للكُتب، مشدداً على أهمية دور وسائل التواصل الإجتماعي في التسويق.
وفي حين شدد على أهمية بناء شراكات بين المؤلفين ، رأى أن “داخل أي إنسان بذرة إبداع ، إذا رعاها تُنتج”.
مفارقة غريبة في بلد العجائب الكثيرة
الدكتور عبد السلام نور الدين، قال إنه”على الرغم من ولع السودانيين بالقراءة، فان الكاتب يأتي في مؤخرة الاهتمامات، ورأى أن هذه مفارقة غريبة جداً ومن العجائب، والسودان فيه عجائب كثيرة”.
وأشار إلى أن المغني والموسيقار استطاعا أن يجدا مكانة مقدرة ومحترمة، مشيراً على سبيل المثال إلى محمد أحمد سرور، ومحمد وردي ، وأشار إلى أن الرياضيين لهم مكانة مشيراَ إلى سبت دودو و جكسا وآخرين.
وبشأن الكُتًاب، قال إن بروفيسور عبد الله الطيب كاتب لكن مكانته كانت مستمدة من أنه أستاذ جامعي، و دكتور منصور خالد كاتب لكنه كان وزيرا.
وأضاف: “باستثناء الطيب صالح لا نعثر على كاتب، كُتبه معروفه، ويستمد قيمته من الكتاب فحسب” ، وقال ” في تصوري لولا الـ BBC( هيئة الإذاعة البريطانية) حيث عمل الطيب صالح لفترة طويلة، وكان يقدم برامج لما تم الإحتفاء به ولما عُرف ككاتب في المقام الأول”.
وأضاف أن” إبراهيم اسحق كاتب لا يقل عن الطيب صالح على الإطلاق لكن ظل معروفا في حدود معينة”.
وأضاف السؤال هنا ليس تقليلاً، من أهمية الرياضة والغناء ولكن لماذا ظلت الشخصية الأساسية للكاتب أقل من مقام ينبغي ان يكون فيه”، وأكد أن التهميش يشمل أيضا الفنان التشكيلي.
ولفت إلى قضية مهمة وهي “عدم وجود حقوق ملكية للكاتب “.
وتحدث دكتور عبد السلام عن تجربته في اليمن بتقدير ومحبة ، وكان عمل أستاذا جامعيا هناك، قادما من جامعة الكويت، مشيراً إلى مكتبات اليمن ، وقال” لا يمكن أن تدخل بيتاً في اليمن ولا تجد مخطوطات، هناك تقدير خاص للكتاب”.
وأشار إلى أن التراث الشعبي للغناء والموسيقى غني في السودان.
واقترح أن ينشيء المؤلفون والمؤلفات في بريطانيا دارا للنشر ومؤسسة توزيع .
دعوة للاهتمام بكتابات النساء
وفي تقديمه للدكتوره سعاد مصطفى، تحدث دكتور محمد الأنصاري عن عطائها ، وأدوارها ككاتبة وحقوقية وباحثة داعمة لحقوق المرأة .
وكانت سعاد هي المؤلفة التي جلست على المنصة بين المؤلفين الرجال.
استهلت حديثها بالإشارة إلى أنها جاءت من مانشيستر إلى لندن للمشاركة في المعرض، وقالت:” لم اتوقع هذا الحضور ( الحاشد) الذي نراه”.
ولفتت إلى ” كتاب آخرين في بريطانيا وايرلندا وأوروبا ” ورأت أن “هذا المعرض تجربة أولى نتعلم منها لإقامة تجمعات مماثلة ، سواء في لندن أو خارجها”.
وروت تجربتها مع قراءة الكتب المصرية واللبنانية في المرحلة الدراسية المتوسطة بالسودان، وعلاقة والدها مع الكتاب، ودعت إلى أهمية “حشد الناس للقراءة “.
لكنها شددت على أن “هذا الشعور يجب أن ينبع من دواخل الإنسان”.
ودعت إلى الإهتمام بكتابات النساء لأنها كما قالت ” ستنزل عليكم بردا وسلاما”.
ولفتت إلى ما أشار إليه دكتور عبد السلام عن ضرورة ان يكون الكاتب محترفاً ، وينال حقوقه، وقالت ” نريد أن يكون الكُتًاب محترفين، وكما قال البيلك “داخل كل شخص قصة ورواية”.
دور الجمهور في إنجاح الندوة
الجمهور ساهم في إنجاح الندوة بطرح آراء أثرت النقاش، وساهمت في سخونته أيضاً.
وطُرح رأي شدد على ضرورة الإهتمام بالكتابة بلغة عربية سليمة، ما أثار جدلًا.
وجاء في ردود متحدثين ” أكتبوا بأي لغة” و ” الجيل القادم أدواته مختلفة” و”كل الكتابات الحالية لغتها ( العربية) عالية ونحتاج إلى أن تكون أقرب إلى فهم السودانيين العاديين”.
وتنوعت الرؤى ، ومنها : ” نحن طالعين من حرب بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات ونحتاج لكُتاب قادرين على مخاطبة المرحلة المقبلة” .
وقيل “من ولدوا هنا ( في بريطانيا ) فاقدون للهوية، ولم أجد كُتباً تخاطبهم”.
وطُرح إقتراح دعا إلى “تكوين رابطة أو إتحاد للكتاب ( للمؤلفين والمؤلفات في بريطانيا) لأن معرض لندن هو نتاج جهود 4 أو 5 أشخاص”.
وسجلت تحديات الذكاء الاصطناعى وضرورات الإلتزام بأخلاقيات النشر حضورا في المناقشات،وساهم دكتور محمد الأنصاري بالحديث عن هذا الشأن..
وذُكر في هذا الشأن أن ” الخطورة تكمن في استخدام الذكاء الإصطناعي في الكتابة، وهو ( الذكاء الإصطناعي) مهم لكنه ليس بديلا للإنسان”.
أخلص إلى القول إن معرض ” المؤلفين والمؤلفات”، تجربة تستحق أن تُدرس ايجابياتها وسلبياتها، وهي نتاج تفكير ورؤية تستحق التقدير والدعم، كي تلعب الكلمة أدوارا أكثر تأثيراً، بالتحليل والتشخيص للقضايا والمشكلات، والتوثيق للأحداث ليبقى ذهن القاريء متقداً، ولتتسع ساحات التعبير عن نبض الدواخل الجميلة.
التحية والتقدير للاستاذ محمد المكي لزيارته وتغطيته المميزة لمعرض الكتاب الأول للمؤلفين والمؤلفات السودانيين المقيمين في المملكة المتحدة، فقد عكس الفعالية بواقعية.
تحياتي وتقديري الاستاذ عبد الجبار دوسة.. سعدت بلقائكم .. أجدد التقدير لدورك الايجابي ببلورة فكرة أول معرض سوداني من نوعه في لندن.