محمد المكي أحمد:
لم اُفاجأ برسائل رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان ،على خلفية المحاولة الإنقلابية الفاشلة في 21 سبتمبر 2021، لأنني أعرف أن ميزان ( الشراكة) مُختل، و القوى السياسية والمهنية التي صنعت الحراك مُشتتة، والحكومة متعثرة بشأن ملفات مهمة، في صدارتها العيش الكريم والعدالة.
البرهان، قال في ثلاثة خطابات، آخرها أمس (26 سبتمبر 2021( إننا مؤمنون بالتحول الديمقراطي) و(من قبضناهم في المحاولة الانقلابية سنعلن انتماءاتهم ، وسنقدمهم لمحاكمات) و(المؤسسة العسكرية ليست حزبية ولن نسمح بالتسلل الحزبي داخلها) و(إننا كعسكريين أكثر حرصا على أن تنتهي الفترة الانتقالية في مواعيدها ليختار الشعب من يحكمه) مشددا على ( تماسك القوات المسلحة (وما حنخلي فيها ” كوز” ) و( سنعمل على إصلاح القوات المسلحة) إضافة إلى حديثه عن معاناة الشعب الحياتية، ودعوته ( قوى التغيير) إلى توحيد صفوفها، والفشل الحكومي في ملفات عدة .
أرى أن هذا كله كلام إيجابي، لكن توقيته ومكانه وطريقة طرحه خاطئة، وتسببت في الأزمة الراهنة، فيما كان مطلوبا التركيز على قضية المحاولة الانقلابية.
كما نسف ما أراه إيجابيا، بقوله (نحن وصيين ( أوصياء) على أمن ووحدة السودان) واذا كان يعني الوصاية بمعناها السياسي ، أو أنها زلة لسان، أو خانه التعبير، فهذا الكلام أشبه بانقلاب على التعهدات، من دون بيان، ويبدو أنه تراجع أو صحح ما قاله في هذا الشأن، عندما قال مجددا أمس الأحد ( أننا كلنا شركاء في الهم والتغيير) .
المدهش قوله ( نقول لإخواننا السياسيين ، إن المحاولة الانقلابية اجهضناها نحن ” الغُبش”) رغم أن هذا واجبه مع العسكريين ، وليس مدعاة للمنة، والمدهش أيضا قوله ( القوات دي هي التي تحمي التغيير وتسوقوا محل ما دايره توديهو ، ما في زول بسوقوا).
هذا كلام له جذور قديمة، أي توجد قواسم مشتركة بين حديثه المثير لغضب (شركاء) أزعجهم حديث (الوصاية) وما أعلنه قبل عامين.
أعيد للأذهان أن الفريق البرهان أدلى ببيان في الرابع من يونيو 2019 ، حينما كان رئيس المجلس العسكري، وفي اليوم التالي لمجزرة فض الاعتصام السلمي، بقوة السلاح، أمام مقر قيادة الجيش، أعلن قرارات مُفاجئة، ضد (قوى الحرية والتغيير)، في زمن تماسكها سياسيا ومهنيا.
في بيانه التلفزيوني قبل عامين، وبصفته القائد العسكري ، أي قبل أن يتولى رئاسة مجلس السيادة أعلن البرهان (إلغاء ما تم من اتفاق، وإيقاف التفاوض مع قوى الحرية والتغيير) و( الدعوة إلى انتخابات عامة في فترة لا تتجاوز تسعة أشهر من الآن “من 4 يونيو 2019” بإشراف إقليمي ودولي) و( تشكيل حكومة تسيير أعمال) وكنت انتقدت بيانه في فضائيات.
تلك القرارات ذهبت هباءً منثورا، لأن مليونية (تظاهرات)30 يونيو 2019 حددت اتجاه البوصلة ، فأضطر (المجلس العسكري )على التوافق مع (قوى الحرية والتغيير)على وثيقة دستورية ، تحت ضغط إرادة الشعب وحراكه السلمي، المُزلزل، وجرى توقيعها في 17 أغسطس 2019، في مهرجان سياسي، شهدته دول بالإقليم والعالم.
القاسم المشترك بين حديث البرهان قبل عامين وماصدر عنه هذه الأيام، يوضحه قوله في 4 يونيو 2019 إن ( الثورة فقدت سلميتها) وهاهو ذكر في 21 سبتمبر 2021 ( نحن شايفين المسألة انحرفت عن مسارها الصحيح) أي (الشراكة) وربما يقصد الثورة.
هو ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو يتحدثان بطلاقة لسان واحد، عن سلبيات (الشركاء المدنيين) ، ومن حقهما إبداء الرأي وطرح المواقف، لكن في المكان والتوقيت المُناسبين، وليس في يوم افشال محاولة انقلابية، لأن هذا خلط للأوراق، والسؤال هنا أين (مجلس شركاء الحكم) فقد قيل أنه لتعزيز التفاهمات ومعالجة الخلافات؟.
الكلام عن سلبية ( قوى الحرية) مشروع ، وكنت كتبت عن سلبياتها ومناكفاتها، وانتقدت الحكومتين ( الأولى ) و(الثانية) من منصة الصحافي والمواطن ، لكن يُلاحظ أن البرهان وحميدتي لا يتكلمان عن سلبيات ( المكون العسكري) ، وفي أوساط الراي العام كلام يتكرر، بأنه لم يقم بإصلاح شامل للأجهزة العسكرية والأمنية، ويُعتبر هذا مُهددا لخيار الشعب، وقد يتسبب في انقسام داخل المؤسسات العسكرية ، إذا لم تتماسك وفق عقيدة تحمي ثورة الشعب وتطلعاته المشروعة .
ورغم سلبية لغة ( الوصاية) على لسان البرهان، أرى بعض الإيجابيات والدروس نجمت عن تفاعلات إفشال (المحاولة الانقلابية) .
في صدارتها أن ( قوات الشعب المسلحة) وقياداتها أحبطت المحاولة الإنقلابية، من دون سفك دماء، وفقا لتأكيدات قادة عسكريين، وهذا يضيف لرصيد من يقفون مع خيار الشعب، وكان الفريق حميدتي قال (أننا أفشلنا محاولات عدة) وهذا أمر إيجابي، لكن أين التفاصيل والشفافية؟.
الأزمة أكدت أن ما كان يردده بعض القادة المدنيين والعسكريين، عن رسوخ الشراكة ، وأنها ( نموذجية، و مثال نقدمه إلى العالم) هو في أحسن الأحوال تعبير عن نيات طيبة، لترطيب الأجواء، ودفعها باتجاهات التلاقي، لبناء جسور تفاهمات بين ( المكونين العسكري والأمني).
أي أن تفاعلات الأزمة ، أبرزت الاحتقان الشديد بين مكوني السلطة (العسكري والمدني) ، وهذا يعني غياب الشفافية بشأن إعلان إنسداد اُفق التفاهمات بين الجانبين ، ما أدى ويؤدي إلى أن يدفع الشعب أكلافا باهظة، بسبب تفجير توترات، وحرائق سياسية، تشتعل بغتةً، وتُهدد بحرق أحلام الناس وأشواقهم .
( الشراكة) المؤسسية ضرورية، و كنت كتبت داعما لتوقيع الوثيقة الدستورية في يوم الحدث ( التاريخي)، والآن أدعو لتصحيح أخطاء وتجاوزات الشراكة.
التفاعلات الحالية أبرزت إيجابية خطاب رئيس الوزراء دكتور حمدوك، عن المحاولة الانقلابية، إذ ركز على قضية الساعة ، وتناول أن (الانقلاب مدبر من داخل القوات المسلحة وخارجها) وأنه ( امتداد لمحاولات الفلول) والهدف ( إجهاض الانتقال المدني الديمقراطي)، وشدد على ( ضرورة إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية، ومراجعة الشراكة على أسس وطريق يؤدي إلى الانتقال المدني الديمقراطي) ويبدو أن هذا الموقف أثار غضب البرهان وحميدتي، لأنه حملهما ضمنيا مسؤوليات الدفاع عن المرحلة الانتقالية، والاخفاق أيضا .
أما خطابات البرهان الثلاثة، وخطاب نائبه الفريق محمد حمدان دقلو وهو قائد الدعم السريع ، فالمضمون استهدف (قوى حرية)، وتعمدا عدم الخوض في تفاصيل المحاولة الانقلابية، وبلغة أهل الرياضة ( شتتا الكرة) وقال البرهان ( همشونا) بشأن مبادرة حمدوك، لكن صاحب المبادرة نفى ذلك، ما يعني أن البرهان غاضب من رئيس الوزراء.
من الإيجابيات أن الأزمتين، في الخرطوم، وشرق السودان حاليا، أخرجتا للرأي العام ، ما في النفوس من احتقان، و ما كان ذلك لينفجر لو تم الاحتكام إلى رؤية شاملة لقضايا السودان و كل الأقاليم، لا تجزئة الحلول في مسارات مثيرة للجدل، كما أن أم المشكلات وأخطر الأزمات يُفرزها ضرب المؤسسية، وتداخل الاختصاصات، و ضعف الحضور، الميداني، الحكومي السريع، في بؤرات التوتر ، ما ضرب ويضرب هيبة السلطات.
من إيجابيات تفاعلات الساعة ، أنها سلطت الأضواء على قضية تسليم رئاسة (مجلس السيادة) إلى شخصية مدنية يختارها ( الشريك) المدني، وفقا للوثيقة الدستورية، إذ كان مقررا أن يتم ذلك في مايو الماضي، لكن اتفاق جوبا للسلام أضاف سنة إلى الفترة الانتقالية ، وهناك من يفترض أن تقود شخصية مدنية (السيادي) في نوفمبر المقبل ، هل يتحقق ذلك ، أم أن أزمة ساخنة، وكبرى على الطريق؟
الأزمة الراهنة فتحت ملفات، بينها العلاقات الخارجية، وانتهاك البرهان وحميدتي الوثيقة الدستورية، إذ صالا وجالا في الخليج وأفريقيا، وصولا إلى تركيا، بصفتهما السياسية والعسكرية، رغم أن ملف العلاقات الخارجية من صميم مهمات الحكومة، بل تجرأ البرهان، وسافر سرا إلى العاصمة اليوغندية، والتقى رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتانياهو وفرض ( التطبيع) من دون تفويض.
قلت في تلفزيون (بي بي سي) ثم قناة ( فرنسا 24) في 23 أكتوبر 2020 ، وأكرر أن من حق السودانيين البحث في العلاقة مع إسرائيل في برلمان منتخب ، وأن تل أبيب موجودة على الخارطة الدولية، لكن فرض هذه المسألة ليست من الأولويات، وأن انتهاك النص الدستوري، وخارطة أولويات المرحلة، سيخلقان صراعا، وانشقاقا في صفوف قوى الثورة وداخل السلطة ، هذا ما حدث ، و لعب دورا في شق صفوف (قوى الحرية والتغيير) وأدخل بعض فصائلها في خلاف مع (السلطة الانتقالية).
من إيجابيات أجواء إفشال المحاولة الانقلابية أن صدى الحدث السوداني مسموع في واشنطن وأوروبا والاقليم والعالم .
هاهو الرئيس الأميركي جو بايدن يشيد في خطاب، ولفتة رائعة،الأسبوع الماضي، في الأمم المتحدة بـ (شجاعة السودانيات) أي بمشاعل الثورة الشعبية، ورسائل واشنطن وبياناتها متتالية إلى الخرطوم، وكذلك اتصالاتها مع حمدوك، ثم زيارة مبعوث أميركا الخاص إلى القرن الأفريقي، هذا الأسبوع ، للسودان، للبحث في قضايا الساعة والمنطقة.
مواقف واشنطن،وأوروبا،والأمم المتحدة،الداعمة للتحول الديمقراطي، حيوية ومؤثرة، وتضمنت تحذيرات ضمنية إلى جهات داخلية وخارجية ، والعسكريون في (مجلس السيادة) محتاجون إلى قراءة الرسائل الدولية بعُمق.
تفاعلات الساعة تتيح لـ (المكون العسكري) فرصة لمراجعة مواقفه، فشعبنا قدم دماءً ودموعا غزيرة، ويسعى إلى نظام ديمقراطي، واحتكامكم للوثيقة الدستورية، أي لخيار الشعب، من دون عراقيل، سيضعكم في صفحات تاريخ ناصعة، والعكس صحيح.
أقول لحمدوك وأحزاب السلطة أنه ليس في مقدور أي نظام سياسي أن يُحلق في آفاق الإنجازات ، إذا لم تكن أولويته قضايا بيته ، فالسياسة الخارجية المتوازنة تنطلق من مرتكزات نجاح داخلي، يوفر مناخات الكرامة والعزة والطمأنينة، والعيش الكريم للمواطن .
بشأن النفوس الانقلابية، المتآمرة، المُتنمرة على خيار الشعب، الديمقراطي، فحتما ستجنى على نفسها، كما ( جنت على نفسها براقش).
أخلص إلى أن أزمة المحاولة الانقلابية تتيح فرصة نادرة، قد لا تتكرر، لـ (قوى التغيير) بجناحيها، وحمدوك و( المكون العسكري) لمراجعة الخطى، والأخطاء، بشفافية، وصدقية، لتوحيد الصفوف ومواجهة التحديات المعيشية والأمنية والعدلية، واحباط الخطط التآمُرية بنهج (شراكة) مؤسسية، والا فطوفان الشارع قادم.
برقية:
من يزرع الشوك لا يجني العنب.