
محمد المكي أحمد:
في موقف إيجابي ، وحيوي، ويعكس دلالات عدة ، أعلن رئيس الحكومة البريطانية، السير، كير ستارمر، ، أن المملكة المتحدة ستعترف بدولة فلسطينية في سبتمبر المقبل في إجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وشدد على أن اتخاذ حكومته هذا القرار يجي لحماية حل الدولتين أي دولة للفلسطينيين ودولة للاسرائيليين، وأكد أن ” دعمنا لأمن إسرائيل لا يزال ثابتا”.
الموقف البريطاني تم تحديده بدقة، وينص على أن لندن ستتخذ خطوة الإعتراف بالدولة الفلسطينية إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات تسمح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة، وتوضح أنه لن يكون هناك ضم للضفة الغربية، وتلتزم بعملية سلام طويلة الأمد تحقق “حل الدولتين” .
بعد دقائق من إعلان ستارمر هذا الموقف، خاطب وزير الخارجية البريطاني ، ممثلي الدول المشاركة في مؤتمر دولي ، ترأسته السعودية وفرنسا ، بهدف حشد الدعم للحل السلمي للقضية الفلسطينية ومناصرة حل الدولتين، وهذا الحل في رأيي ،وكما كتبت غير مرة هو الذي يضمن السلام والاستقرار والأمن للاسرائيليين والفلسطينيين.
ديفيد لامي فاجأ المشاركين في مؤتمر نيويورك ، بموقف بريطاني عن نية الإعتراف بالدولة الفلسطينية، وقد صفقوا بحرارة ترحيبا بهذا الموقف من دولة كبرى، وهو أكبر دعم تلقاه المؤتمر السعودي الفرنسي الدولي، في يومه الأخير ، فهو يدعم ” حل الدولتين”.
قال لامي في المؤتمر بمقر الأمم المتحدة، الذي التأم يومي 28 و29 يوليو 2025 أن الحكومة البريطانية تنوي الإعتراف بالدولة الفلسطينية في إجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل وأكد على الشروط التي ذكرها ستارمر.
الموقف البريطاني يحقق هدفين، أولا يعكس موقف الحكومة الداعم لاقامة دولة فلسطينية، وثانيا يضغط على الحكومة الإسرائيلية كي توقف حربها الشرسة في غزة ، وهي حرب تخوضها بمختلف أنواع الأسلحة ، وأقبح ما في هذه الحرب أنها تتخذ التجويع سلاحا لقتل الاطفال، والنساء والشيوخ والشباب وكل البشر، أي أن الهدف هو إبادة الفلسطينين بالسلاح المتطور، وبالجوع.
السؤال، هنا ما موقف ستارمر تجاه “الدولة الفلسطينية” من حيث المبدأ؟
مواقف ستارمر قبل وبعد فوزه برئاسة الحكومة اتسم بالثبات بشأن حل الدولتين ، إذ أعلن مرات عدة ، حينما كان زعيما للمعارضة وبعد توليه مسؤوليات رئيس الحكومة، أنه يدعم ” حل الدولتين” .
لن انسى رسالة تلقيتها من زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر أي قبل أن يتولى رئاسة الحكومة ، وجاءت ردا على رسالة أرسلتها إليه، بعدما شنت اسرائيل حربا شرسة على غزة ، و دعوته إلى السعي لوقف الحرب ، ونشرت رسالته في 12 فبراير 2024 تحت هذا العنوان :
:Starmer
The next Labour government would be dedicated to working towards a two– state solution
(نص الرسالة تحت هذا العنوان في موقعي الالكتروني ).
مواقف رئيس الحكومة البريطانية لا تعكسها رسالة واحدة أو رسائل، لأنها انطلقت من رؤية حزب العمال التي طرحت التغيير Change شعارا وهدفا حينما خاض الانتخابات البرلمانية ، وقد فاز الحزب فوزا، تاريخيا، باهرا، حمل ستارمر إلى 10 داوننغ ستريت (مقر الحكومة).
نتيجة الانتخابات التي جرى إعلانها في 5 يوليو 2024، أظهرت أن حزب العمال حصل على 412 مقعدا برلمانيا مقابل 121 لحزب المحافظين، أي أن رئيس الحكومة ستارمر يتمتع بثقل برلماني يدعمه بقوة و قادر على تمرير سياساته، في هذا الشأن ، كما أن عددا من البرلمانيين من أحزاب أخرى يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويدينون المذابح وإبادة المدنيين ، وخصوصا الأطفال والنساء ، كما ينتقدون مواقف الحكومة البريطانية ويرون أنها لم تواكب الأحداث المأساوية بمواقف قوية.
إذا تأملنا مواقف اتخذتها الحكومة البريطانية خلال حرب اسرائيل على غزة، فقد أدانت اختطاف حركة حماس للرهائن الاسرائيليين، لكنها اتخذت خطوات غير مسبوقة للضغط على متطرفين في الحكومة الاسرائيلية ومستوطنين، وفرضت عقوبات، وأطلقت تهديدات.
في 20 مايو 2025 قررت بريطانيا تعليق مفاوضات التجارة الحرة مع اسرائيل واستدعت السفيرة الاسرائيلية وفرضت عقوبات على مستوطنين وهددت باجراءات أخرى.
في 10 يونيو 2025 أعلنت بريطانيا “فرض عقوبات واتخاذ إجراءات استهدفت إيتمار بن غفير ( وزير الأمن القومي الاسرائيلي ) وبتسلئيل سموتريتش ( وزير المالية الإسرائيلي) بسبب تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية ، وجاء هذا في إطار موقف جماعي ضم بريطانيا وأستراليا وكندا ونيويلندا والنرويج.
و هددت الحكومة البريطانية على لساني رئيس الحكومة ووزير الخارجية بأنها “ستتخذ إجراءات أخرى” في حال لم يتوقف شلال الدم في غزة.
يرى بريطانيون ، وبينهم أعضاء في حزب العمال الحاكم أن بعض الخطوات التي اتخذتها الحكومة ضد الحكومة الاسرائيلية بسبب عدوانها وممارساتها الدموية في غزة ضد المدنيين لم ترتق إلى مستوى الأزمة.
لكن بيان ستارمر الجديد بشأن نيته الإعتراف بالدولة الفلسطينية، وكلمة لامي في نيويورك، يعكسان تطورا مهما، ويرسمان سمات جديدة للسياسية البريطانية، التي يصنعها حزب العمال في هذه المرحلة ، وأرى أنها تعبير نوعي عن موقف أخلاقي وإنساني ، يستحق الإشادة والتقدير والإحترام.
هذا الموقف يعكس اعترافا بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ويؤشر إلى أن الحكومة البريطانية بدأت تتفاعل ايجابيا وتخطو خطوات إلى الأمام ، وبخطى ثابتة واثقة ومؤثرة في تعاملها مع إزمة المظلومين، المقهورين، الجياع ،في غزة .
هذا معناه أن حكومة ستارمر ليس في مقدورها أن تستمر أسيرة لمواقف تاريخية، قديمة، وسلبية، وظالمة للشعب الفلسطيني، وحقه الإنساني المشروع في العيش الكريم .
في سياق هذه التفاعلات ، كان لافتا أن وزير الخارجية ديفيد لامي تحدث في مؤتمر ” حل الدولتين” بنيويورك عن ” العبء التاريخي على اكتافنا” وهذا تصريح مهم وشجاع ويستحق التأمل و الإشادة، والمأمول أن تتطور مواقف حكومة المملكة المتحدة في ظل قيادة ستارمر وحكومة حزب العمال، كي تُنصف الشعب الفلسطيني، والمظلومين في العالم كله.
فلسطينيون وعرب وكثيرون من أحرار العالم يرون أن بريطانيا تتحمل مسؤولية تاريخية بشأن ما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني من بؤس وشتات، وأن هذا الشعب يسستحق التفاتة بريطانية قوية وموقفا تاريخيا، صلبا، يدعم حقوق الإنسان ، ويداوي شيئا من الجراح.
هذا يعني أن ارتفاع سقف الموقف البريطاني بشأن أحقية الشعب الفلسطيني في التمتع بالحرية والكرامة الإنسانية على أرضه، وفي دولته الحرة المستقلة، مهم، وحيوي ، ومطلوب بالحاح شديد.
في ضوء تفاعلات الإعلان البريطاني، أقول إنني لم استغرب موقف الحكومة بشأن السعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ كنت وما زالت أرى أن رئيس الحكومة وزعيم حزب العمال كير ستارمر كان أعلن في تاريخ قديم دعمه لـ ” حل الدولتين” وهو قادر، ويتمتع بثقل برلماني، وشعبي يساعده على اتخاذ قرارات تاريخية، في مستوى مكانة المملكة المتحدة الدولية، وبما ينسجم مع التاريخ والخلفية المهنية لرئيس الحكومة.
ستارمر حقوقي، خاض غمار المحاماة في ميادين العدالة ، ويعرف أكثر من غيره قساوة الظلم، وبطش الظالمين، وهو مدرك لأهمية وضرورات نصرة المظلومين، في فلسطين، والسودان، وغيرها من مناطق التوتر في العالم.
اللافت في هذا الإطار أن نية الاعتراف البريطانية بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل، هي نية مشروطة ، وتختبر نيات الحكومة الاسرائيلية ، وتضعها في محكات صعبة.
هذا الموقف البريطاني ، جرى إعلانه غداة اجتماع عقده رئيس الحكومة البريطانية مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في منتجع ترمب في اسكتنلندا.
الرئيس الأميركي يرفض إقامة الدولة الفلسطينية، كما ترفضها اسرائيل وفي ضوء موقفي أميركا وإسرائيل فان الموقف البريطاني الُمعلن تاريخي ، وحيوي.
حكومة ستارمر ، على الرغم من قوة علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة قادرة في رأيي على اتخاذ قرارات مستقلة، وهي كما قال وزير الخارجية لا تخضع لاملاءات من أحد، وأرى أنها لو كانت تخضع للموقف الأميركي لما أعلنت سعيها للاعتراف بالدولة الفلسطينة، وخصوصا أن ترمب يمارس ضغوطا في الهواء الطلق ، وعلى شاشات التلفزيون، و لا يجامل الشركاء والحلفاء في اوروبا أو العالم العربي .
أميركا أدانت بشدة مؤتمر حل الدولتين في نيويورك، وهو محفل رأى النور بشراكة سعودية فرنسية، أي أنه نتاج موقف حليفين استراتيجيين لأميركا.
ويمكن القول في هذا السياق أن حقائق المشهد التي دفعت الحكومة البريطانية إلى إعلان سعيها للاعتراف بالدولة الفلسطينية متعددة ، ومنها أن مياها كثيرة جرت تحت جسر حراك ساخن داخل حزب العمال الحاكم، هناك ضغط شديد يهدف إلى دعم الشعب الفلسطيني ومعاقبة اسرائيل.
أروقة البرلمان شهدت ضغوطا على الحكومة ، وهناك من أكثر من 200 برلماني طالبوا الحكومة بموقف حازم وحاسم ،بشأن ما يجري في غزة من مآسي وإراقة دماء.
الحكومة البريطانية ، وهي منتخبة وتحتكم إلى الممارسة الديمقراطية ، قرأت وتقرأ اتجاهات الرأي العام، وهذه سمة من سمات المجتمعات الديمقراطية .
المؤكد أن حكومة ستارمر استمعت إلى أصوات قوية، وشعارات ساخنة في شوارع لندن ومدن بريطانية، وهي تهتف في تظاهرات سلمية، دعما لحقوق الإنسان الفلسطيني، وقد دعت المواكب التي تتواصل لوقف الحرب، ومنع سفك الدماء، وتطالب بممارسة ضغط شديد على الحكومة الاسرائيلية، كي توقف ذبح وتجويع الفلسطينيين في غزة، و يأتي الأطفال في صدارة قوائم الضحايا ، وقد بلغ عدد قتلى الحرب أكثر من 60 ألف شخص.!
هذا الحراك الجماهيري اللافت والحيوي في شوارع لندن الحيوية ومدن بريطانية يُعد من أبرز سمات المجتمع الديمقراطي ، ودولة القانون والمؤسسات في المملكة المتحدة ، إذ أن حرية التظاهر السلمي متاحة ، وأيضا حربة التعبير والكلام مُصانة .
هذه سمة حيوية من سمات المناخ السياسي والإجتماعي ، وفي ضوء ارتفاع الأصوات المُطالبة باحقاق الحق ونصرة الشعب الفلسطيني في غزة يرتفع سقف التوقعات بأن تواصل الحكومة البريطانية (التغيير) الذي رفعته شعارا ، في سبيل تحقيق تحولات كبرى، داخليا وخارجيا.
عراقة بريطانيا في مجال الحريات و استقلال القضاء واحترام حقوق الإنسان البريطاني تستوجب أن تلعب لندن دورا رياديا جديدا في عالم مضطرب، في سبيل المساهمة الفاعلة، بإطفاء الحرائق، في عدد من البؤر المشتعلة، ومواقع الأزمات والحروب الطاحنة ، وفي الصدارة فلسطين، و السودان، من أجل أن يتمتع الإنسان الفلسطيني والسوداني بالحرية والعدالة والعيش الكريم.
أرى أن فرصة تاريخية سانحة أمام رئيس الحكومة وزعيم حزب العمال كير ستارمر، ليلعب أدوارا ريادية، في عالم هو في مسيس الحاجة إلى قادة يحترمون احتراما صارما وحاسما وحقيقيا حقوق الإنسان.