محمد المكي أحمد:
بعد صدور أي حكم قضائي، بشأن أية جريمة قتل، قبل أو في أعقاب نجاح ثورة ديسمبر 2018 السودانية، السلمية ، تبرز تفاعلات ساخنة و ارتياح في أوساط أهل الشهداء وشباب الثورة ، وفي مقدمتهم (لجان المقاومة) ، وفي أوساط شعبية.
أحدث دليل ، بدا واضحا، فور صدور قرار أصدرته محكمة بمدينة الأبيض، الخميس الماضي ، الخامس من أغسطس 2021، إذ بتت في قضية 6 تلاميذ قتلهم جنود من ( قوات الدعم السريع) بإطلاق الرصاص عليهم في 19 يوليو 2019.
الطلاب الذين قُتلوا بدم بارد، كانوا تظاهروا سلميا ،احتجاجا على أوضاع معيشية قاسية، ورفعوا شعارات احتجاجية بسبب أزمة خبز، وهم بذلك مارسوا حقا دستوريا من خلال التظاهر السلمي.
المحكمة التي قررت إعدام 7 من الجنود شنقا حتى الموت ، بعدما تمسك أولياء الدم بالقصاص، برأت 2 ، وكان لافتا أن القاضي قرر إحالة (المدان الثالث) وهو جندي (طفل) إلى ( محكمة الطفل) !.
التفاعل الإنساني، بعد صدور الحكم رسم مشاهد مؤثرة، ومشحونة بدلالات ومعان مهمة.
شباب الثورة في الأبيض ،هتفوا، بعد إعلان الُحكم، وهم يحيطون بأمهات وأخوات وأهل الشهداء ومواطنين ، ورددوا هتاف الثورة ( مقتل طالب مقتل اُمة) – ( دم الشهيد دمي، أم الشهيد أمي) – (دم الشهيد ما راح، نحن لابسنه وشاح) .
هتاف الشباب السوداني من الجنسين، في مدن عدة ، يُعبر عن قيم ومبادئ وطنية ، تحترم حقوق الإنسان، و يقدمون بذلك دروسا بليغة، لمن يريد أن يتعظ من التجارب والأحداث.
وصفت ما جرى للطلاب في الأبيض في حديث إلى قناة ( الجزيرة) فور وقوع الحادث بأنه ( مجزرة) وكتبت في 29 يوليو 2019 أن (المجزرة تؤكد وجود مجرمين في مدن عدة لابد أن تطالهم يد العدالة) وأضفت أن ( ما جرى يؤكد أهمية إعادة هيكلة القوى العسكرية والأمنية لتحفظ أمن المواطن، مع ضرورة الاحتكام لقضاء مستقل).
الدروس في هذا الشأن متوافرة في المنطقة العربية، وفي لبنان هذه الأيام أنصع دليل، ويؤشر تزامن لافت بين حدثين سوداني ولبناني، إلى أن قضايا العدالة تحظى بأولوية شعبية .
حُكم المحكمة في كُردفان وتفاعلاته، جاء غداة مسيرات في لبنان في الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020.
التفاعلات في الأبيض وبيروت، خلال هذه الأيام، تجيء في سياق حراك شارعين ثائرين و غاضبين، في السودان ولبنان ، ويُركز الحراك المتجدد، على ضرورة تحديد الأشخاص أو الجهات التي تقف وراء عمليات القتل الجماعي والفردي، التي شهدها البلدان.
أي أن القاسم المشترك في عناوين الغضب الشعبي في البلدين يهدف إلى كشف ( مجرمين) ، وضرورة رفع حصانات عن متهمين ، والإسراع بمحاكمتهم .
المجزرة في ساحة الاعتصام السلمي، أمام مقر قيادة (قوات الشعب المسلحة ) في السودان في 3 يونيو 2019 ، والتي نُفذت لضرب الثورة الشعبية وإفشال مساراتها، كانت وما زالت محل اهتمام شعبي يتصاعد مع مرور ذكرى المجزرة.
معلوم أن مجرمين قتلوا في المجزرة بدم بارد عشرات الأشخاص، وتقول معلومات أنهم أكثر من مئة شخص، وبينهم شباب من الجنسين وفقا لتقديرات أولية، ، وجُرح عددُ وُصف بأنه (كبير)، وأسفرت المجزرة عن (مفقودين)، وهناك مفقودون منذ سنوات عدة، وبينهم شباب في مقتبل العمر.
اللبنانيون صُدموا بكارثة ( مرفأ بيروت) في الرابع من أغسطس 2020، وهي نتاج انفجار آلاف الأطنان من (نيترات أمونيوم) وقيل أن الكمية التي جرى تخزينها كانت تزن 2750 طنا ، وأدى الحادث إلى قتل 218 وجرح نحو 6500 شخص، بينهم من أصيبوا بإعاقات، و طال التدمير والتشويه أحياء سكنية، في العاصمة اللبنانية وفقا لتأكيدات مصادر لبنانية متطابقة.
في المجزرتين ( في ساحة الاعتصام والمرفأ) يبدو عمق الأزمة، والتحديات الكبيرة التي تواجه السلطتين السياسية والقضائية في السودان ولبنان ، إذ تُظهر شلالات الدم التي تدفقت بغزارة، قاسم الوجع والحزن الشديد المشترك ، بين السودانيين واللبنانيين، بشأن فداحة ( جريمتين) تستحقان الوصف بأنهما من أكبر جرائم العصر وأبشعها.
الحراك يتواصل، وهاهي بيروت الجميلة والجريحة انتفضت، الأربعاء الماضي، 4 أغسطس 2021، لمناسبة مرور عام على كارثة ( مرفأ بيروت) ، وهاهم ثوار الأبيض وشبابها يهتفون باسم الشهيد وأم الشهيد في اليوم التالي، أي يوم الخميس 5 أغسطس 2021، غداة حراك لبنان، ما يعكس تزامنا يعبر عن مواجع وآلام الشعبين السوداني واللبناني ، و الإصرار على محاكمة ( الجُناة).
في بيروت يتساءلون: من أدخل المادة السامة والقاتلة إلى المرفأ وسمح بتخزينها نحو ست سنوات، ولماذا لم ُتحرك ساكنا قيادات في الحكم اللبناني لإبعاد تلك الشحنة من المرفأ، رغم أن بعض كبار المسؤولين يعلمون بوجودها هناك بحسب مصادر إعلامية لبنانية؟.
في مدن لبنانية ارتفع هتاف ( الشعب يريد اسقاط النظام) في أثناء تظاهرات ثورة الشعب اللبناني 2019 التي حُوصرت محليا وخارجيا من جهات محلية وخارجية وخُنقت، لكن الحراك لم يمت في قلوب الناس وعقولهم، ونذكُر هنا هتافا لبنانيا يلخص رؤية الغاضبين ( كلن يعني كلن ) ( بكسر الكاف و اللام) وهو يدعو لإسقاط كل (الطبقة السياسية الحاكمة).
أصحاب الوجع في السودان يتساءلون أيضا عن المتورطين في جريمة فض (الاعتصام)، أمام مقر قيادة الجيش، ومتى يتم اعلان نتائج (لجنة التحقيق ) ، لتحال القضية على القضاء، ليقول كلمته؟ .
(لجنة التحقيق المستقلة) التي شكلها رئيس الحكومة الانتقالية دكتور عبد الله حمدوك في سبتمبر 2019 برئاسة الخبير القانوني والمحامي نبيل أديب لم تكمل عملها بعد، ويكرر رئيسها من وقت لآخر أن اللجنة تطلب من الحكومة دعما فنيا ، مشيرا إلى أهمية الفحص الفني لجثامين، وذُكر أن اللجنة نظرت في فيديوهات عن المأساة، واستمعت لإفادات شهود.
ونعيد للأذهان أن ( المجلس العسكري) كان شكل لجنة تحقيق، كما شكلت النيابة لجنة ثانية قبل تشكيل اللجنة المستقلة.
في لبنان جرى تكليف القاضي طارق البيطار للتحقيق في قضية المرفأ، ثم تولى الأمر القاضي فادي صوان، لكن ما زالت القضية تراوح مكانها، ما زاد الغضب في أوساط شعبية رأت أن الحل يكمن في إزاحة ما يسميه أهل لبنان بـ ( الطبقة السياسية الفاسدة) وضرورة اللجوء إلى فتح أبواب التحقيق الدولي .
في السودان تتجدد من وقت لآخر دعوة لإحالة قضية التحقيق في مجزرة ( الاعتصام) إلى لجنة تحقيق دولية، ويقترن هذا مع انتقادات شديدة للحكومة الانتقالية بشأن البطء في تحقيق العدالة، مع دعوات متكررة لإصلاح المنظومة القضائية و العدلية، تطبيقا لنص في ( الوثيقة الدستورية) .
في لبنان لم تقف الإدانة لـ ( الطبقة الفاسدة ) في حدود البلد، بل تجاوزتها إلى دول كبرى ، وأحدث دليل ظهر في المؤتمر الدولي الثالث لتقديم مساعدات إنسانية للشعب اللبناني، الذي نظمه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش في الرابع من أغسطس 2021 ( الأربعاء الماضي)،وخاطبه الرئيس الأميركي جو بايدن عبر تقنية الإنترنت، وشاركت فيه 40 دولة أوروبية وعربية ، وقد تزامن المؤتمر مع مسيرات لبنان في ذكرى كارثة المرفأ.
ماكرون رأى في خطاب ساخن لدى مخاطبته المؤتمر أن ( الطبقة السياسية اللبنانية عملت على تعظيم الأزمة بإعطاء الأولوية لمصالح أحزابها، على حساب الشأن العام) وأنه ( لا شيك على بياض للنظام السياسي المسؤول الأول عن الأزمة) في لبنان، وهذه رسالة تحتاج أحزاب السودان الحاكمة والمعارضة لتأمل دلالاتها.
واذا كان منظمو مؤتمر باريس ركزوا على تقديم مساعدات إنسانية إلى (الشعب اللبناني مباشرة) وليس من خلال الدولة، فان الدرس هنا المستفاد أن انعدام الثقة في الحكومة اللبنانية يدفع دول العالم إلى تقديم المساعدات للشعب اللبناني عبر الأمم المتحدة لا عبر السلطات الحاكمة.
هذا درس مهم، كي يحرص النظام السياسي في السودان اليوم وغدا على الشفافية والصدقية والمؤسسية ، أي الحكم الرشيد، وأن تتأمل ( السلطة الانتقالية) دلالات هذا التوجه الدولي الذي يركز على العدالة ومكافحة الفساد السياسي والمالي والإداري كشرط لتقديم مساعدات.
صحيح أن الموقف الفرنسي ضد ( المنظومة الحاكمة) في لبنان يختلف اختلافا تاما عن موقف ماكرون تجاه ( السلطة الانتقالية) في السودان ، إذ أعلن دعمه مرحلة الانتقال، وأبدى في وقت مُبكر اعجابه بالثورة السودانية ودور المرأة (الكنداكة) في الثورة الشعبية، كما لعبت فرنسا دورا حيويا، دعما للاقتصاد ، بعقد مؤتمر في باريس، أدى لإلغاء جزء من ديون السودان.
الثورة السودانية هي صاحبة الفضل والريادة في فتح أبواب العالم أمام ( السودان الجديد) وأن الدعم الفرنسي والأوروبي والأميركي للخرطوم ينبغي فهمه في سياق رؤية أوروبية أميركية تدعم أهداف ثورة الشعب السوداني ، والانتقال إلى مرحلة الانتخابات، وهو ليس دعما لأشخاص عسكريين أو مدنيين.
هذا يعني أن سوء الإدارة أو النكوص عن التعهدات ، ويشمل ذلك انهاء المرحلة الانتقالية ودخول مرحلة الانتخابات ستكون نتائجه كارثية على السودان وعلى ( السلطة الانتقالية)، لأنه لا توجد دولة كبرى أو صغرى تقدم عونا متواصلا من دون دفع استحقاقات، وبينها المسائل الحقوقية.
أحدث دليل على الاهتمام الحقوقي الدولي بالعدالة جاء في تقرير ( هيومن رايتس ووتش) بشأن انفجار مرفأ بيروت عشية ذكرى الكارثة، إذ اتهمت السلطات بـ ( الإهمال الجنائي) و( انتهاك الحق في الحياة).
أعيد للأذهان أن ( هيومن رايتس ووتش) أصدرت تقريرا عقب مجزرة ساحة الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش السوداني، وتضمن تلميحات إلى تورط بعض المسؤولين ، وكان الجيش السوداني ندد بالتقرير وقال إنه (يفتقر إلى المهنية والحيادية والأمانة) .
قضايا العدالة و الحقوق عابرة للحدود، وتهم الدول الكبرى والمنظمات الحقوقية، كما أن الاستعانة بالخبرات الدولية لكشف الجرائم الكبرى باتت امرا طبيعيا، ولا يحتاج إلى تردد حكومي كما جرى في السودان خلال الفترة الماضية، لأن الدور محدد ولا يمس السيادة الوطنية .
وعلى سبيل المثال، عكست مشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي ( FBI ) في تحقيقات مرفأ بيروت هذه الحقيقة، حيث قدم الأميركيون للبنان تقريرا في أكتوبر 2020 سُمي ( تقرير المسح الميداني) ، وكانت مصادر لبنانية كشفت ان السلطة اللبنانية المختصة تنتظر تقريرين من خبراء متفجرات بريطانيين وفرنسيين.
خليجيا طلبت قطر مساعدة أميركا بعدما جرى اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية وهو موقع رسمي في منتصف ليلة 24 مايو 2017، و شارك فريق من مكتب التحقيقات الأميركي ( FBI) في التحقيقات بشأن ما وصف قطريا بـ ( جريمة الكترونية كبرى) وهي حدثت عشية ما عُرف بـ ( حصار قطر).
هذا معناه أن لا غرابة في أن تستعين الخرطوم بخبرات اختصاصين دوليين، لكشف خيوط جرائم كبرى، شديدة التعقيد، كجريمتي فض ( الاعتصام) السلمي بإطلاق النار، واعدام 28 ضابطا في 1990،لأن الدعم الفني لا يمس السيادة الوطنية واستقلال القضاء.
برقية:
قضايا العدالة تتجاوز حدود الزمان والمكان، لأنها تُعنى بحقوق الإنسان.