
محمد المكي أحمد:
كان ومازال لها في قلبي وعقلي ووجداني مكانة راسخة.. ثابتة كثبات شجرة خضراء ، متجذرة في أعماق الأرض.
تميزت بهدوء ينساب عبر صوتها وحميميتها، التي كانت تنقل الى قلبي مشاعر مودة عميقة متبادلة.
غمرتني بتلك الروح الدافئة خلال سنوات الترحال بين مدن ودول خلال سنوات الحكم الديكتاتوري البغيض الذي أسقطه شعب السودان بثورته السلمية المدهشة في ١١ أبريل ٢٠١٩.
كانت شقيقتي الصغرى ( انتصار) حاضرة معي في أسفاري، بصوتها الهاديء وروحها الأخوية الجميلة.
رافقتني بقلبها في ترحالي،خصوصا بعدما غادرت قطر الى بريطانيا (مضطرا) في العام ٢٠١٥ بعد فترة عمل استمرت لأكثر من ثلاثين عاما.
كانت حزينة بسبب مغادرتي الدوحة الى لندن ، حيث تشتت شمل الأسرة، وهي التي زارت الدوحة مع والديها ، فأحبتها،وقد رأت ولمست عن قرب كيف تجذرت وتعمقت علاقاتي مع أهل قطر.
في لندن كنت أسعد باتصالاتها المنتظمة، المستمرة، لتطمئن على الحال والأحوال، وكانت تتوق كما يتوق فلذات أكبادي وشريكة الدروب الصعبة واخواتي واخواني وأهلي الى يوم يجتمع فيه الشمل لنفرح بضوء قمر الحرية وشمس الخلاص .
خلال اتصالاتها الهاتفية كانت تدعو الله وتكرر الدعاء (ربنا يجمع الشمل، ربنا يجمعنا يا أخوي …..) وكانت الكلمات الدافئة تخرج كأنها مخنوقة ومجروحة،فتزيد أوجاعي .
استمديت من اسمها (انتصار) ودلالاته طاقة صمود امام أساليب الملاحقة والقمع والظلم وألم السفر والترحال الطويل ، وجدت في اسمها ما يشحن الدواخل، ويعزز القناعة بأن فجر الحرية آت وان ليل الظلم الى زوال .
حزمت حقيبتي قبل عامين لمقابلتها في القاهرة، لعل الله يكتب لها الشفاء من علة أقعدتها وشلت قواها، وقبل يومين من السفر انتقلت الى رحمة الله.
رحلت انتصار عن دنيانا الفانية في ٣ مايو ٢٠١٨، كان ومازال رحيلها موجعا ، شديد الايجاع ،رحلت حبيبتي التي تحمل قسمات أمي الجميلة الراحلة (ستنا) قبل أن يسعد قلبها بزوال ليل الظلم الطويل ليعود ابنها الى حضن أمه .
رحلت انتصار ورحلت قبل رحيلها أمي وأبي وعمات وعدد ممن نحب قبل ان نتبادل التهنئة بنجاح صبرهم، وصبر أم أيمن وأيمن وأحمد وأمنية واخواتي واخواني وأبنائهم وأهلي وأحبابي، رحلوا قبل انتصار شعبنا وهم الذين دفعوا أثمانًا باهظة بسبب سفر ابنهم الطويل ،المضني .
رحلت انتصار قبل ان نودع معا متاعب رحلتي الطويلة في عالم القبض على الجمر ، جمر الصحافة، وجمر الموقف الصعب ، وجمر السفر الطويل .
رحلت لكنها حاضرة بيننا بروحها الطيبة ومشاعرها الأخوية وبساطتها المستمدة من جمال وجدان أهلنا الأخضر في بارا وكردفان ، ومن نبض الإنسان السوداني .. الرائع ..الصبور.. الصبور .. الصبور.. الى حين ، فهو لا يقبل استمرار الحيف، وهو صانع الهبات ، لأنه يكره الظلم ويحب العدالة.
في ذكرى رحيل انتصار أدعو الله أن يتغمدها بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته ، وان يرحم رحمة واسعة من فقدتهم في سنوات سفري الطويل،وفي صدارتهم.. أبي (الخليفة) رمز الشموخ والتواضع والبساطة .. وأمي منبع الحنان، ومصدر الرقة والعطف والرحمة … عليهم جميعًا رحمة الله .
وأدعو الله ان يحفظكم أنتم جميعا…