محمد المكي أحمد:
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مساء (٣١ يناير ٢٠٢٠) بعدما كانت تلعب دورا بارزا في الاتحاد الأوروبي لمدة ٤٧ عاما، شكلٍ حدثًا تاريخيًا مزلزلًا و كبيرًا، تتباين بشأنه المواقف محليًا وأوروبيًا وعالميًا .
المؤكد ان عملية الخروج ستكون لها انعكاسات على لندن ودول الاتحاد الأوروبي،لكن يصعب التنبؤ بطبيعة هذه الانعكاسات ، وهل ستكون إيجابية للمجتمع البريطاني وسلبية على الأوروبيين، أم ان نسب الربح والخسارة تتداخل ويتقاسمها الجانبان.
الحدث ( بريكست Brexit) معلوم انه نتاج استفتاء عام أجراه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في 23 يونيو 2016، وشارك فيه نحو 17.4 مليون شخص وفاز مؤيدو (الخروج) بنسبة 51.9 في المئة مقابل 16.1 مليونًا شكلوا نسبة 48.١ صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي .
هذا يعني انه على رغم ان نتيجة الاستفتاء ملزمة سياسيا وقانونيا لإتمام (الخروج) لكن العنوان البارز لهذه النتيجة أنها أظهرت (الانقسام) في أوساط البريطانيين تجاه هذه المسألة.
وربما يفسر ذلك بوضوح عمليات الشد والجذب التي سادت الساحة السياسية وخصوصا البرلمان والإعلام خلال الفترة الماضية (اكثر من ثلاث سنوات) ما أدى الى ان يدعو رئيس الوزاء بوريس جونسون الى انتخابات حقق فيها حزبه (حزب المحافظين) نتائج باهرة مكنته من تمرير قانون الخروج في ظل تراجع لافت و ملحوظ لحزب العمال بقيادة جيريمي كوربن ، ويرى عدد من مراقبين أنه مسؤول عن تراجع الحزب وفوز مؤيدي الخروج من الاتحاد الأوروبي ، بسبب سياساته وتوجهاته والخلافات داخل حزبه .
أيًا تكن الأسباب فان إرادة الشعب البريطاني انتصرت ، أي انتصرت الديمقراطية ،حيث شهدنا نقاشا حيويا في البرلمان البريطاني بين مؤيدي الخروج ومناهضيه،وشكل ذلك اثراء عظيمًا للنظام الديمقراطي العريق.
لكن هذا لا يلغي حقيقة الانقسام في المجتمع البريطاني،وهذا تؤكده حشود الذين احتفلوا مساء الجمعة ٣١ يناير ٢٠٢٠، كمًا تجمع آخرون من أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي على شاطئ (ساكس ) وهم يعبرون بالشمع عن حزن شديد بوقوع (الطلاق) .
هذا الطلاق لن يقطع العلاقة بين الجانبين وربما تجد فيه بريطانيا ودول الإتحاد الأوروبي فرصة للتأمل في سبيل فتح مجالات تعاون أوسع، تحترم حقائق التاريخ والجغرافيا والقيم الجميلة المشتركة ،وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان .
لعل البيان الذي أطل من خلاله بوريس جونسون رئيس الحكومة بالتزامن مع لحظة الخروج من الاتحاد الأوروبي يؤكد ما اشرت اليه بشأن الانقسام والسعي لعلاقة جديدة مع اوروبا، اذ قال
(إننا نغادر الاتحاد الأوروبي وهي لحظة أمل اعتقد البعض أنها لن تأتي، كما أنها لحظة يشعر فيها البعض الآخر بالفقدان والقلق).
جونسون أضاف ( هناك مجموعة ثالثة هي الأكبر، والتي كانت قد بدأت تشعر بالقلق من أن التشاحن السياسي ليس له نهاية).
حرص جونسون على تأكيد (تفهم هذه المشاعر، ومهمة الحكومة الآن هي توحيد البلاد والمضي قدما) ، ورأى أن (الخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس النهاية بل البداية).
طبعًا هذه لغة دبلوماسية رصينة تختلف عن لهجته الحادة التي كانت يتحدث
بها خلال صولاته وجولاته في البرلمان، وفي مقابلاته الصحافية، واعتقد بأنه يراعي ضرورات معالجة الانقسام في المجتمع ويسعى من خلالها الى توحيد الرأي العام المنقسم، لكن التحدي الأكبر الذي يواجهه يأتي من
إسكتلندا .
الوزيرة الأولى في إسكتلندا نيكولا ستورجيون شددت على أنه يجب إجراء استفتاء ثان من أجل استقلال اسكتلندا في العام 2020.
لغة جونسون الهادئة تمد أيضًا جسور التواصل مع قادة الاتحاد الأوروبي،وأمامه مفاوضات بشأن قضايا عدة مهمة وساخنة، في صدارتها اتفاقات بشأن التجارة والأمن والصيد،ومعلوم ان هاك فترة انتقالية (١١ شهرًا) تعقب تاريخ (الخروج) وستلتزم فيها لندن بتطبيق القوانين الأوروبية .
الأوروبيون من جهتهم بادلوا جونسون لغة رصينة ،لكنهم لم يخفوا حزنهم على قرار لندن بشأن (الطلاق) وتمسكهم بعلاقات مستقبلية قوية ، وهاهو الرئيس الفرنسي ماكرون (على سبيل المثال)يصف الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بأنه (يوم حزين) لكنه يرى أنه لابد أن يدفعنا الى (بناء إتحاد أوروبي أكثر قوة وفاعلية).
بشأن العلاقات الخارجية فان الحدث البريطاني الأوروبي سيسفر (كأولوية) عن اتفاقات تجارية مع دول العالم، وبينها دول الخليج التي تنظر اليها لندن بعين الحريص على استثماراتها الكبيرة،وستشهد العلاقات البريطانية الأميركية تطورات نوعية في ظل رئاسة الرئيس دونالد.
الخلاصة أنه -رغم التضارب بين مشاعر الحزن والفرح التي طغت عندما دقت ساعة ( بيغ بن ) لحظة الرحيل (١١ مساء بتوقيت لندن ) – فان هذه العملية تمت في إطار دولة المؤسسات والقانون التي توفر كل الحريات للجميع ،وتحمي الحقوق ،وتعامل الصغير والكبير ، واللاجئين أيضًا بالقانون الذي يحترم حقوقهم .
في درس (البريكست) تكمن دروس يمكن ان تتعلمها دول العالم الثالث ،وبينها دولنا العربية والأفريقية وبينها السودان .
من أبرز الدروس أن الديمقراطية ممارسة وحقوق والتزام بالحريات والمؤسسات التي تبقى فاعلةويتغير الأشخاص.
ويكفي الإشارة الى ان بريطانيا منذ تاريخ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي تداول رئاسة حكوماتها ثلاثة شخصيات،هم ديفيد كاميرون وتيريزا ماي ،وبوريس جونسون.
هذا معناه ضرورة ان يغادر دنيا العرب والأفارقة وغيرهم نمط الحكم مدى الحياة.
أتمنى ان يضع السودان الجديد حدًا لفترات الجلوس الطويلة على كراسي( الحكم) في الحكومة و الأحزاب ، ليفتحوا الدورب أمام مشاركة الشباب من الجنسين.
علينا ان ندرك أيضًا (رغم عدم صواب المقارنة بين علاقة بريطانيا بدول الاتحاد الأوروبي والوضع في السودان ) ان دعوات (الطلاق)داخل الوطن الواحد كما حدث باستقلال جنوب السودان يمكن ان تتكرر إذا لم نضبط معادلة المواطنة التي يجب الا تفرق بين الناس، بسبب الدين أو العرق( الخ) محمد المكي أحمد- لندن