
محمد المكي أحمد:
تتوالد التحديات، التي تواجه ( السلطة الانتقالية) في السودان، بوتيرة متسارعة، هذه الأيام …
من أزمات حوائج الناس اليومية، والتدهور الأمني، وأحداث شرق السودان، ومضاعفات المحاولة الانقلابية ، ومواجهة (إرهابيين) ، إلى تحالفات سياسية، متصارعة، تحمل لافتات ( قوى الحرية والتغيير) ، وسجال واتهامات متبادلة بين (مكونات) السلطة، العسكرية والمدنية، ثم تفاعلات قرار محكمة عليا.
هاهوالحكم الذي أصدرته دائرة طعون بالمحكمة العليا، بشأن إبطال قرارات أصدرتها (لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال ) وأعاد مواطنين إلى أعمالهم ، يشكل أكبر تحد من نوعه يواجه اللجنة.
اللجنة سارعت إلى توضيح موقفها، على لسان عضو اللجنة الأستاذ وجدي صالح ، ومن أهم تأكيداته الإيجابية ( سنمشي في الجانب القانوني) و( لن تقف في مواجهة السلطة القضائية ) و( نحن مع القضاء العادل واستقلاله) و( سيادة حكم القانون).
التفاعلات أبرزت قضية عدم تفعيل دور لجنة الاستئنافات التي تنظر في قرارات ( لجنة التفكيك)، ويُشكلها،وفقا لوجدي،اجتماع مشترك لمجلسي ( السيادة) و( الوزراء) و ( رغم مطالبتنا المتكررة بتشكيل لجنة الاستئنافات حتى لا يتضرر المتظلمون، فان تشكيلها لم يجد أذنا صاغية، وهي غير مكتملة).
هذا يعني أن من عطلوا لجنة الاستئنافات، تسببوا في أمرين، أولا: إعاقة سير العدالة بالحؤول دون استئناف متضررين قرارات الفصل، وثانيا: فتحوا ثغرة، تهيئ الظروف وتُساعد على ضرب قرارات اللجنة، أو إعاقة عملها، بعدما حظيت باحتضان قوى شبابية، وسياسية، ومهنية.
في حديث إلى إذاعة (بي بي سي) في يونيو 2020 قلت إن إحتضان أوساط عدة لـ (لجنة إزالة التمكين) رسالة الى (السلطة الانتقالية) مضمونها إنه كلما اقتربت من نبض الشعب سيقترب منها، وكلما ابتعدت عن نبضه ابتعد عنها، و شددت على ضرورات العدالة للسودانيين كافة، ما يستوجب استئناف أي قرار تتخذه (لجنة إزالة التمكين) .
لن أعلق على قرار المحكمة الموقرة، فهو ما زال يتفاعل، والأهم أنني أدعم استقلال القضاء، وأرى أن المؤهلين لتحليل أي حكم هم الاختصاصيون، أهل المهنة، خبراء القانون.
ومثلما قوبل القرار باهتمام ملحوظ داخل السودان، حظي أيضا بالتفاتة عقول، في السودان المُهاجر، بينها الخبير القانوني الدكتور أحمد عثمان ، وتلقيت رسالة منه، تضمنت تفاصيل ( أحدث نسخة) مع (إضافة بعض التوضيحات في النقطة الثالثة) وكتبها بعنوان (ملاحظات حول حكم المحكمة العليا بإبطال قرار لجنة إزالة التمكين بفصل بعض القضاة) ولخصها في نقاط سبع، تدعو للتأمل، هنا تفاصيلها:
١- صدر الحكم من دائرة غير مختصة و لا ولاية قضائية لها على لجنة إزالة التمكين بحكم قانون إزالة التمكين، لذلك فهو معدوم لصدوره ممن لا يملك سلطة قضائية و خارج نطاق الولاية القضائية للدائرة التي أصدرته.
٢- تجاوز الحكم ما نص عليه القانون المذكور في (١) أعلاه و في ذلك عوار دستوري و قانوني، لمخالفة دور القضاء الدستوري في تطبيق القوانين، والاستدراك على المشرع بمخالفة النصوص الصريحة الواردة بذلك القانون.
٣- تجاوز الحكم الطريق المحدد لاستئناف احكام اللجنة المذكورة قانونا ، و لم يلتزم بسبل استنفاذ طرق التظلم الإداري حتى إن صح تكييفه لقرار اللجنة كقرار اداري.
فبإفتراض – مجرد إفتراض- القبول بأن القرار اداري كما كيفته المحكمة الموقرة، هنالك سبيل تظلم خاص به رسمه القانون ، هو استئنافه إلى لجنة استئنافات قرارات لجنة التمكين، التي تعتبر مرحلة من مراحل استئناف هذا القرار الإداري و التظلم منه إن صح اعتبارها جهة إدارية و هو أمر محل نظر. فتكييف المحكمة الموقرة للقرار بأنه اداري – إن تم الأخذ به تجاوزا- يعني أن جهة إصداره إدارية و جهة تظلمه إدارية كذلك، قبل أن يصح الطعن فيه قضائيا.
لذلك كان على المحكمة الموقرة الإلتزام باستنفاذ سبل التظلم الإداري المرسومة في قانون إزالة التمكين، طالما أنها اعتبرت القرار إداريا، و أن جهة إصداره مرفق اداري عام قراراته بالحتم يتم التظلم منها لجهة إدارية.
٤- صدر الحكم من دائرة لا تتسم بالحيدة المطلوبة قانونا، لان رئيسها سبق و أن أبدى رأيا واضحا ضد قانون إزالة التمكين و بأنه غير مقتنع به، و بالرغم من ذلك رفض التنحي عن نظر الدعوى.
٥- أحد القضاة – و يقال الاثنان الآخران – له مصلحة شخصية في صدور مثل هذا القرار، و هما ضمن قائمة المفصولين الأخيرة – إن صح الخبر. و بالتالي فصلهما في نزاع لهما مصلحة في أن يؤسس لسابقة يستفيدان منها، يماثل قضاءهما بالمخالفة للمبدأ الأصولي للعدالة الطبيعية الذي يمنع الشخص أن يكون قاضيا في قضيته أو أن يكون له مصلحة في الدعوى، و هذا أمر يتعلق بالحيدة و النزاهة. بالإضافة إلى أنهما ليس لهما سلطة قضائية أو ولاية قضائية عند صدور القرار، لكونهما مفصولان حينها، و هذا يعني أن القرار صادر من غير ذي ولاية أو سلطة قضائية.
٦- الحكم موقع من قاض واحد – على الأرجح رئيس الدائرة- و هذا يبطل الحكم بلا شك ، و لا نظن بأن توقيع القضاة المعنيين على مسودة الحكم – إن وجدت، يخول رئيس الدائرة التوقيع نيابة عنهما على القرار الصادر و المسلم للخصوم. فالواجب هو توقيع القضاة أيضا على النسخة المنشورة للجمهور و التي تعتبر عنوانا للحقيقة.
٧- قضى الحكم بالبطلان بدلا عن الإلغاء، و هذا مخالف لسلطة القضاء الإداري المقصورة على الإلغاء و التعويض.
في رأيي هناك العديد من السبل لمناهضة هذا القرار بطريقة قانونية، و هو ما سيحدث حتماً.
و بكل أسف لم ينظم القانون السوداني السبيل الذي ينبغي سلوكه و الجهة المناط بها إزالة العقبة المادية بإعدام المعدوم في حدود علمي المتواضع، على عكس النظام المصري مثلا الذي يسمح بإيداع دعوى مبتداة ببطلان الحكم إذا صدر منعدما.
و في تقديري أن على القانونيين التفكير في استدخال هذا النوع من الدعاوى، و أن يتقدم صاحب المصلحة بمثل هذه الدعوى للتأسيس لسابقة قضائية سودانية في هذا الصدد.
كذلك أعتقد أن بالإمكان التصدي للحكم عبر رفع دعوى قضائية ضد الهيئة القضائية بوصفها الجهاز المنوط به تصريف شئون العدالة، في إطار مسئولية الدولة عن أخطاء القضاء، و المطالبة بالتعويض استنادا إلى انعدام الحكم و تسببه في أضرار واجبة التعويض.
فالحكم تجاهل على نحو متعمد الطريق المرسوم دستورا و قانونا، بالإضافة إلى عيب الاختصاص فيما يخص الدائرة التي نظرته و الذي ناقشه الكثير من القانونيين، و ثبوت عدم حيدة رئيس الدائرة الذي سبق له أن أبدى رأيا عدائيا ضد القانون و رفض التنحي، و مخالفة بعض قضاة الدائرة لأهم مبدأ في قواعد العدالة الطبيعية و هو منع الشخص أن يكون قاضياً في قضيته أو في دعوى له مصلحة فيها أن شئنا التعميم، و تصديا للقضاء و هما مفصولان و لا ولاية أو سلطة قضائية لهما، و لكامل الأسباب الأخرى التي اثارها كثير من الزملاء القانونيين العلماء مثل أن قرار لجنة إزالة التمكين ليس قرارا إداريا بالأساس.
في اعتقادي أن رفع الدعويين ضروري لأنه يضيف إلى طرق تصريف شئون العدالة ما يعزز تصريفها، و يفتح الفرصة لتمتين النظام القضائي و القانوني بحماية المجتمع من أخطاء القضاء، و التأسيس لعدالة شاملة لا تقوم على افتراض أن القضاء لا يخطئ، فوق أنه يعالج الأزمة السياسية و الانسداد الذي خلقته هذه السابقة السبة في جبين القضاء السوداني.
في اعتقادي أيضاً أنه من الممكن مقاضاة القضاة شخصياً لأنهم تعمدوا الجور وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي لا تقر الحصانة المطلقة للقاضي كنظام القانون العام، و تستثني حالات تعمد الجور، و ذلك لأن النظام القانوني السوداني قد تحول إلى نظام الحصانة المقيدة منذ سن (قوانين سبتمبر) سيئة السمعة.
و بالرغم من أن هناك فرصة لمراجعة هذا الحكم، إلا أنني أحبذ عدم التقدم بطلب لمراجعته و مناهضته بدعوى البطلان المبتداة، و دعوى التعويض ضد الهيئة القضائية، مع دعاوى شخصية في مواجهة القضاة أعضاء الدائرة، لما في ذلك من مصلحة النظام القانوني السوداني.
مراجعة أحكام المحكمة العليا تم استحداثها بموجب القانون رقم ٣٦ لسنة ١٩٧٧م ، و بعد صدور قانون الإجراءات المدنية لسنة ١٩٨٣م نصت المادة ٢١٥ على الا تخضع أحكام المحكمة العليا للمراجعة كقاعدة عامة، و أجازت لرئيسها أن يشكل دائرة تتكون من خمسة قضاة من المحكمة العليا لمراجعة أي حكم منها إذا انطوى على مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية. و لا أعرف إن كان هذا النص عدل ام لا. و مخالفة الشريعة الإسلامية فسرتها المحاكم أحيانا تفسيرا ضيقا وأحيانا أخرى تفسيرا واسعا. و لا اعلم إن كان رئيس المحكمة العليا سيرى مخالفة للشريعة في هذا الحكم تستدعي المراجعة فيكون دائرة لمراجعته ام لا إن كان نص المادة قائما بنفس صيغته.
و بما أن الحكم نهائي و له حجية لا ينال منها توفر سبيل طعن استثنائي غير عادى هو المراجعة أو التماس إعادة النظر كما يسميها الفقه اللاتيني، فإن مناهضته عبر الدعوى المبتداة بالبطلان و دعوى التعويض مع الدعوى ضد القضاة المعنيين، هي أنجع طرق المعالجة في تقديري المتواضع).
من هو كاتب الملاحظات؟
أحرص على التعريف بأدوار خبراء وشخصيات سودانية مؤهلة، تعمل خارج السودان، وتوثيق مبادراتها وأفكارها، بشأن قضايا الساعة، لأن قناعتي أن السودان، لن يطير ويُحلق في فضاء التغيير الشامل، و النهضة، إلا بجناحي سودانيي الداخل، والسودان المُهاجر، وأحدث دليل ثورة ديسمبر 2018.
دكتور أحمد عثمان عمر محمد ، من مواليد شندي في العام ١٩٦٦، تلقى تعليمه العام في مسقط رأسه، حصل على درجاته الجامعية و فوق الجامعية، من جامعة الخرطوم ، عمل بالمحاماة، خمس سنوات بالسودان ، وانتقل بعدها للعمل بدولة قطر، عمل مستشارا قانونيا بمكاتب محاماة ، و مستشارا داخليا لإحدى شركات المساهمة العامة، ويعمل حاليا خبيرا قانونيا بمكتب محاماة في الدوحة، لديه عدد من المؤلفات في القانون و السياسة، وهو من كتاب الصحافة الإلكترونية، ويتمتع بحضور تحليلي متواصل، لشؤون سودانية وقانونية، منذ سنوات عدة.
برقية:
(أعطني قضاء أعطك دولة).. هكذا صدق حكيم.